كان شابا وسيما في الثلاثين من عمره، وكان يواعد فتاة عشرينية تدرس بالجامعة، لطالما وعدها بالزواج فور حصوله على وظيفة قارة؛ كانت الفتاة جميلة وتعشقه عشقا ولا تدخر جهدا في إسعاده.
تعودا الالتقاء بمقهى وسط المدينة أمام الناس، ولا يترددان في تبادل العناق وإمساك يديهما أو حتى المزاح دون خجل، كانت تضع عطرا مميزا أهداه لها في عيد ميلادها . والكل يضرب بهما المثل في التضحية والوفاء والإخلاص بل هناك من ناداهما بدل اسميهما بقيس وليلى.. لطالما رأيتها تأتيه من ورائه وتغمض عينيه بيديها الناعمتين وتقول بصوتها الحنون: من أنا؟ فيجيبها: أنت ملاكي، كلا؛ أنت حياتي.. بل أنت أميرتي.. فتقفز على ظهره في سعادة غامرة؛ ثم يحملها في دراجته النارية وينطلقان بسرعة بين الأزقة وفي شوارع المدينة؛ تتشبث به بكل ما أوتيت من قوة وشعرها الحريري الطويل يتطاير بانسياب في الهواء..
بعد حوالي عامين، تحسن حال الشاب وأصبح أكثر ثراء فتمكن في وقت وجيز من شراء مسكن خاص به وسيارة فارهة؛ سعدت الشابة كثيرا لحبيبها وأصبحت أكثر تعلقا به؛ لأنها بدأت ترى أحلامها تتحقق وأمانيها على وشك الحصول؛ فقبل أيام كانا يستمتعان معا في أماكن متواضعة بينما الآن فهو يأخذها إلى أرقى الفنادق والمحلات التجارية.. ولطالما ذهب بها إلى منزله الجديد واقترح عليها اختيار نوع الأثاث المناسب له.
فأصبح همها الشاغل هو معرفة موعد تقدمه لخطبتها من والديها، فكل الظروف أصبحت مواتية ليكونا معا؛ خاصة وأنها بدأت تحس بالفتيات يغرن منها ويحسدنها على حبيبها؛ كما أن إحدى صديقاتها أخبرتها يوما أن الرجال يتغيرون مع تحسن أحوالهم المادية!
وبالفعل حدث ما كانت تخشاه، فبعد أيام لاحظت بعض التغير في تصرفات حبيبها، إذ أصبح يتأخر عن مواعيدهما ولا يهتم بها كما في السابق؛ و لطالما اتصلت به على هاتفه ليلا ووجدت الخط مشغولا ساعة او تزيد؛ كما أنها رأته مرارا يرافق فتيات أخريات وكلما استفسرته عن الأمر يجيبها أنهن مجرد صديقات لا أكثر! وكان شديد الحرص على هاتفه ولم يعد يضعه أمامها كأنه يخفي به أمرا!
سرعان ما تسلل الشك إلى قلب الشابة المسكينة فلم تعد تقوى على الصبر، وفي لحظة، وبينما هما عائدان من جولة بالسيارة، باغتتهه بسؤالها قائلة: حبيبي، متى ستتقدم لخطبتي؟ أريد أن نعيش معا في منزلنا! تفاجأ الشاب من كلامها غير المتوقع، فأجابها وفي صوته نبرة توحي بالتوتر وعدم الإرتياح: ماذا! أجل، قريبا جدا حبيبتي سنكون معا! سأفكر بالموضوع وسنحدد اليوم المناسب..
لم ترتح الفتاة لجواب حبيبها، لكنها أخفت ذلك في قلبها وقررت التزام الصمت؛ نظر الشاب إلى وجه حبيبته المحمر وملامح وجهها الحزينة فأردف قائلا: أنت تعلمين جيدا كم أحبك! وأنا متشوق لإخبار والدتي بعلاقتنا. وبدل أن يطمئن قلب الفتاة، ازدادت حيرتها وكبر حزنها فقالت في نفسها: قضيت معه كل هذه المدة والعالم كله يعلم بعلاقتنا ما عدا والديه!!
خفق قلبها بشدة وسال العرق البارد على جسمها فطلبت منه أن يوصلها إلى بيتها لأنها تحس بألم في معدتها ورأسها يكاد ينفجر.
قضت الفتاة المسكينة ليلتها في التفكير والبكاء؛ ولما حل الصباح أخذت هاتفها واتصلت بحبيبها لكنه لم يجب على اتصالاها فاستمرت محاولاتها طول اليوم لكن دون جدوى! ارتدت ملابسها وذهبت إلى المقهى الذي يتواعدان به فلم تجد له أثرا ! فجلست في طاولتهما المعهودة وبدأت تغالب الدموع المنهمرة على خديها. تقدمت منها النادلة التي تعرفها منذ زمن قائلة: لا تحزني عزيزتي، فالرجال كلهم سواء! لقد كان هناك مع فتاة أخرى! ثم أضافت: أنت جميلة وألف رجل يتمناك! نهضت الفتاة على الفور من مكانها فنظرت في وجه النادلة ثم انطلقت نحو بيت حبيبها. ولما وصلت أمام بابه، ترددت في طرق الباب وقررت الاتصال بحبيبها قبل ذلك، اتصلت وقبل أن تنطق بكلمة أجابها بصوت جاف وبارد: انتظري سأتصل بك بعد قليل أنا في اجتماع مهم مع مديري في العمل ثم أقفل الخط!
تعجبت من تصرفه الغريب، وانهالت الأسئلة على رأسها المتعب من كل جانب؛ أحست أن شيئا غريبا بدأ يحدث وأن حبيبها لم يعد وفيا مثلما كان، خاصة وأن سيارته مركونة بالخارج! وهو يدعي أنه في مقر الشغل!
جلست في كرسي بالحديقة أمام باب المنزل وهي تفكر في ما حصل، محاولة إيجاد أجوبة منطقية للأسئلة التي تدور في رأسها، تريد إقناع نفسها أنه مازال يحبها وأن كل شيء مجرد سوء تفاهم. ظلت على تلك الحال مدة من الزمن حتى حصل ما كانت تخشاه ، فتح باب المنزل، وخرج منه حبيبها وهو يعانق فتاة أخرى، صعدا إلى سيارته وتبادلا القبل! لم تصدق الفتاة المسكينة مايحصل، نهضت على الفور من مكانها وانطلقت نحو السيارة وهي تبكي وتصيح بكل ما أوتيت من قوة!!
تفاجأ الشاب لرؤية البنت القادمة نحوهما وسمع صوتا قويا قادما من الاتجاه المقابل، كان صوت منبه شاحنة كبيرة تحاول التوقف! وقع الاصطدام ، وسرعان ما ملأ غبار أسود المكان ورائحة الفرامل الكريهة خنقت الأنفاس! ترجل من سيارته وانطلق مسرعا نحو الشاحنة. كانت أشلاء حبيبته مبعثرة في كل مكان ودماؤها تسيل في الطريق..
سرعان ما اجتمع الناس في المكان وحضرت الشرطة وسيارة الإسعاف.
سقط الشاب مغشيا عليه من هول الصدمة وحمل إلى المستشفى؛ ولما استفاق لم يخبر أحدا بسره خوفا منه على نفسه و أن يتم اتهامه بالتسبب في وفاة حبيبته. فقرر أخذ إجازة ومغادرة المكان حتى حين.
مرت الأيام وعاد الشاب إلى عمله، وبدأ يمارس عاداته القديمة كأن شيئا لم يحدث؛ كان يواعد الفتيات ونسي أمر حبيبته السابقة.
وفي يوم من الأيام وبينما هو واقف مع بعض أصدقائه، أحس بشخص واقف وراءه يضع عطرا مألوفا، ذلك الشخص أغمض له عينيه وسأله: من أنا؟ استدار بسرعة وحاول أن يعرف من يكون ذلك الشخص لكنه لم يجد أحدا!! اندهش الواقفون أمامه من تصرفه الغريب و قال أحدهم: ما بك؟؟ فأجاب: ألم تر ذلك؟ أحدهم كان واقفا ورائي وأغمض لي عيناي. لم يصدقه أحد وأخبروه أنه ربما يحتاج إلى أخذ قسط من الراحة.
عاد إلى منزله وبدأ يفكر في ما حصل، لقد كان متأكدا أن الشخص الذي كان واقفا وراءه هو حبيبته السابقة، فالصوت صوتها والعطر عطرها! لم يكد يستوعب ما يجري حتى سمع صوت هاتفه يرن، ولما حمله وجد رقم هاتف حبيبته السابقة! أحس بخوف شديد حتى كاد قلبه يتوقف، لم يصدق الأمر لكنه تشجع وأجاب قائلا: من أنت؟
- أنا حبيبتك هل نسيتني؟
لم يستوعب ما يجري وسرعان ما أقفل الخط، وما هي إلا ثواني حتى عاد الهاتف يرن مرارا وتكرارا؛ لم يتحمل الشاب ما يجري فحمل الهاتف ورماه بقوة فوق الأرض حتى أصبح أجزاء صغيرة.
فقال في نفسه أن إحدى صديقات حبيبتها هي من تحاول أن تمارس معه تلك الألاعيب انتقاما منه. فاستلقى على سريره لينام لكنه لم يستطع لأن صورة معشوقته السابقة أصبحت لا تفارقه! فقرر أخذ حمام دافئ لعله يرتاح قليلا. وبعد أن فرغ من استحمامه نظر في المرآة أمامه، فرأى خيال شخص واقف وراءه، ركز جيدا فوجد حبيبته وراءه وعلى وجهها ابتسامة عريضة. هرول وغادر المكان بسرعة، ذهب إلى سريره وهو يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أخذ دواء مسكنا وتناوله عله يحصل على قسط من النوم. وبعد بضع دقائق أحس بالنوم يغلبه، فلما كان في حالة بين اليقظة والنوم، بدأ من جديد يرى حبيبته أمامه، أراد أن ينهض لكنه لم يستطع، كان يدرك جيدا أنه ليس نائما لكنه في نفس الوقت لا يقدر على تحريك أطرافه. فقالت له: حبيبي لماذا لا تجيب على اتصالاتي؟ لقد قلقت عليك كثيرا!
فأجابها بصوت مثقل: من أنت؟ ماذا تفعلين في بيتي؟
- انا حبيبتك.. ملاكك.. حياتك!
- حبيبتي ماتت في حادث سير!
-حبيبي اشتقت إليك كثيرا ولا أستطيع أن أعيش وحيدة من دونك.
اقتربت منه الفتاة ووضعت رأسها فوق صدره وأمسكت به بقوة؛ فلما نظر في وجهها وجده مشوها وكله دماء بينما كانت العظام بارزة تحت ملابسها!! حاول إبعادها لكنه لم يقدر؛ فبدأ يحس بثقل كبير على جسده حتى غاب وعيه.
في الصباح الباكر، استيقظ الشاب وهو يشعر بتعب شديد وألم حاد في رأسه. فحمد الله على أن ما مر به الليلة الماضية كان مجرد كابوس لكن لما توجه إلى المطبخ ليعد فنجانا من القهوة رأى أثر دماء في جميع أنحاء منزله! والأدهى من ذلك أن بيته كان موصدا بإحكام!
غادر الشاب بيته وتوجه إلى عمله، وكان دائم التفكير في ما حصل له وصوت حبيبته وصورتها لا يفارقانه. ولقد لاحظ جل زملائه تغير حاله وأنه لم يعد يركز على عمله كما في السابق ونصحوه بزيارة الطبيب وأخذ قسط من الراحة.
زار الشاب الطبيب وحكى له ما حصل لكن حياته لم تتحسن بل زادت سوءا. فكان شبح حبيبته لا يفارقه لدرجة أنه لم يعد قادرا على النوم بصفة نهائية وكان دائم الخوف والصراخ وكان لا يواظب على عمله حتى طرد وباع سيارته ثم بيته وشيئا فشيئا بدأت تسوء حالته وبدأ يفقد عقله ؛ كان يرتدي ملابس رثة وتفوح منه رائة كريهة وشعره كان طويلا وجسمه مليئا بالقروح وكان يزور المقهى القديم ويسأل عن حبيبته ويطلب من الناس مسامحته.
ظل على تلك الحال حتى جاء يوم كان فيه جالسا في كرسي بالحديقة قرب منزله السابق، فلما رأى حاول قطع الطريق، اصطدمت به شاحنة كانت قادمة من الاتجاه المعاكس فدهسته بعجلاته وتركته أشلاء.
Enregistrer un commentaire